فصل: تفسير الآية رقم (68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (66):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [66].
{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} أي: في خفة حلم، وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفاً على طريق المجاز، أرادوا أنه متمكن فيها، غير منفك عنها {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي: في إدعائك الرسالة، إذ استبعدوا أن يرسل الله أحداً من أهل الأرض إليهم.

.تفسير الآية رقم (67):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [67].
{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} أي: إليكم لإصلاح أمر نشأتيكم كذا.

.تفسير الآية رقم (68):

القول في تأويل قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [68].
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} أي: ناصح لكم فيما آمركم به من عبادته تعالى وحده، وأمين على تبليغ الرسالة، لا أكذب فيه.

.تفسير الآية رقم (69):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [69].
{أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} أي: أيام الله ولقاءه، أي: لا تعجبوا واحمدوا الله على ذلكم {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي: خلفتموهم في مساكنهم، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً بعدهم، فإن شَدَّاد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض، من رمل عالج إلى شحْر عُمان- كذا قالوا-: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} أي: قامة وقوة.
{فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ} أي: في استخلافكم، وبسطة أجرامكم، وما سواهما من عطاياه، لتخصصوه بالعبادة: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: تفوزون بالفلاح.
تنبيهان:
الأول: قال الزمخشري: في إجابة الأنبياء عليهم السلام، من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء، وتارك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم أدب حسن، وخلق عظيم. وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم، على ما يكون منهم. انتهى.
وزاد القاضي: إن في ذلك كمال النصح والشفقة، وهضم النفس وحسن المجادلة قال: وهكذا ينبغي لكل ناصح. انتهى.
الثاني: لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب، بدون وضعها على محك النظر والنقد، من المبالغة في طول قوم عاد، وضخامة أجسامهم، وأن أطولهم كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعاً، فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي، وهو وهم.
وأما قوله جل شأنه مخاطباً لقوم عاد: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} فإنه لا يدل على ما أرادوا، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها، وهذا من الأمور المعتادة، فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته، بل تتفاوت لكن تفاوتاً قريباً.
ومما يدل على أن أجسام من سلف كأجسامنا، لا تتفاوت عنها تفاوتاً كبيراً، مساكن ثمود قوم صالح الباقية، وآثارهم البادية، ومثله، بل أعرق منه في الوهم، ما ينقلونه وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان، من أنه كان يحتجز بالسحاب ويشرب منه من طوله، ويتناول الحوت من قرار البحر، فيشويه بعين الشمس، يرفعه إليها. والحال أن الشمس كوكب لا مزاج له من حر أو برد وإنما حرارتها من انعكاس شعاعها، بمقابلة سطح الأرض والهواء، فشدة حرارتها في الأرض، وتتناقص الحرارة فيما علا عنها بمقدار الإرتفاع.
وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في مقدمة تاريخه، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسمية، ومصانعهم العظيمة، كأهرام مصر وإيوان كسرى، فيتخيلون لأصحابها أجساماً تناسب ذلك.
والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها، وإتساع ممالكها، وقوة شوكتها، ونماء ثروتها، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن معشاره.
وأنكر أيضاً ما ينقلون من قصة جنة عاد، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحارى عدن، بناها شَدَّاد بن عاد حيث سمع وصف الجنة، وأنها لما تم بناؤها، أرسل الله على أهلها صيحة، فهلكوا كلهم، وأن اسمها إرم ذات العماد، وأنها المشار إليها بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}، ويزعمون أنه لم تزل باقية في بلاد اليمن وإنما حجبت عن الأبصار.
وحيث إن ذلك لم يُرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه، ولا نلتفت إليه، وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصنعة، هم المؤرخون الذي يعتمدون على أخبار بني إسرائيل، ويقلدونهم من غير برهان ودليل، والله الهادي إلى سواء السبيل- كذا أفاده بعض المحققين-.
ثم أخبر تعالى عن تمرد عاد وطغيانهم وإنكارهم على هود عليه السلام، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (70):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [70].
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ} أي: لنخصه بالعبادة: {وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أي: من العذاب المدلول عليه بقوله تعالى: {أفَلَا تَتَّقُونَ}. [؟؟].
{إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي: في الإخبار بنزول العذاب.

.تفسير الآية رقم (71):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} [71].
{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} أي: عذاب، والرجس والرجز بمعنى، حتى قيل إن أحدهما مبدل من الآخر، كالأسد والأزد. وأصل معناه الإضطراب، يقال: رجست السماء: رعدت شديداً وتمخضت، وهم في مرجوسة من أمرهم، أي: في اختلاط والتباس، ثم شاع في العذاب لاضطراب من حل به.
وادعى بعضهم أن الرجس بمعنى العذاب مجاز، قال: لأنه حقيقة في الشيء القذر، فاستعير لجزائهم.
وظاهر اللغة أنه حقيقة، ووجه التعبير بالماضي عما سيقع، تنزيل المتوقع كالواقع كما في: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا}.
{وَغَضَبٌ} أي: سخط لإشراكهم معه من هو في غاية النقص، في أعلى كمالاته التي هي الإلهية.
{أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤكُم} أي: في أشياء ما هي إلا أسماء وليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الإلهية فيها معدوم ومُحال وجوده. وهذا كقوله تعالى: {مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}- كذا في الكشاف-.
قال الشهاب: جعل الأسماء عبارة عن الأصنام الباطلة، كما يقال لما لا يليق: ما هو إلا مجرد إسم، فالمعنى: والضمير حينئذ راجع لأسماء وهي المفعول الأول للتسمية، والثاني آلة، ولو عكس لزم الإستخدام. انتهى.
وقوله تعالى: {مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أي: حجة ودليل على هذه التسمية، لأن المستحق للمعبودية بالذات ليس إلا من أوجد الكل، وإنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى، إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل، فتحقق بطلان ما هم عليه.
قال الجشمي: دلت الآية على فساد التقليد، حين ذمهم بسلوك طريقة آبائهم. وتدل على أن المعارف مكتسبة، وتدل على بطلان كل مذهب لا دليل عليه.
ويدل قوله: {أَتُجَادِلُونَنِي} على أن المبطل مذموم في جداله، والواجب عليه النظر ليعرف الحق. انتهى.
وقال القاضي: بين تعالى أن منتهى حجتهم وسندهم، أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقيق المسمى، وإسناد الإطلاق إلى من لا يؤبه بقوله، إظهاراً لغاية جهالتهم، وفرط غباوتهم.
{فَانتَظِرُواْ} أي: نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم: {فَأْتِنا بِما تَعِدُنَا}، لأنه وضح الحق، وأنتم مصرون على العناد.
{إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} أي: لما يحل بكم.
قال المهايمي: جاء منتظرهم بحيث لا ينجو منه بمجرى العادة أحد، وجعل من قبيل الريح التي تتقدم الأمطار، لكفرهم برياح الإرسال.

.تفسير الآية رقم (72):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [72].
{فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي: من آمن به، على خرق العادة {بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} ليدل على رحمتنا عليهم في الآخرة {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي: استأصلناهم.
قال الشهاب: قطع الدابر، كناية عن الإستئصال إلى إهلاك الجميع، لأن المعتاد في الآفة إذا أصابت الآخر أن تمرّ على غيره، والشيء إذا امتد أصله أخذ برمته، والدابر بمعنى الآخر.
{وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} عطف على: {كَذَّبُواْ} داخل معه في حكم الصلة.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: {وَما كانُواْ مُؤْمِنينَ} مع إثبات التكذيب بآيات الله؟
قلت: هو تعريض بمن آمن منهم، كمرثد بن سعد، ومن نجا مع هود على السلام، كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم، ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أن الهلاك خص المكذبين، ونجى الله المؤمنين. انتهى.
قال الطيبي: يعني إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين، علم أن سبب النجاة هو الإيمان لا غير، تزيد رغبته فيه، ويعظم قدره عنده. انتهى.
قال ابن كثير: قد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن بأنه أرسل عليهم الريح العقيم: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}، كما قال في الآية الأخرى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} لما تمردوا وعتوا، أهلكم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرجل منهم، فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتثلع رأسه حتى تُبينَهُ من جثته.
وقال محمد بن إسحاق: كانت منازل عاد وجماعتهم، حين بعث الله فيهم هوداً، الأحقاف قال: والأحقاف الرمل، فيما بين عُمان إلى حضرموت، فاليمن كله.
وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلها، وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله: صنم يقال له صُداء، وصنم يقال له، صمود وصنم يقال له الهباء: فبعث الله إليهم هوداً، وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلهاً غيره، وأن يكفوا عن ظلم الناس.
لم يأمرهم فيما يذكر، والله أعلم، بغير ذلك، فأبوا عليه وكذبوه، وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}.
واتبعه منهم ناس، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم، وكان ممن آمن به وصدقه رجل من عاد يقال له مرثد بن سعد بن عُفَيْر، وكان يكتم إيمانه. فلما عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيهم، وأكثروا في الأرض الفساد، وتجبروا وبنوا بكل ريع ريع آية عبثاً بغير نفع، كلمهم هود فقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوء} أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا جنون أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} إلى قوله: {صِراطٍ مُّسْتَقيمٍ}.
فلما فعلوا ذلك، أمسك الله عنهم المطر من السماء ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك.
وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد، فطلبوا إلى الله الفرج منه، كانت طلبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة، مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم، وكلهم معظِّم لمكة، يعرف حرمتها ومكانها من الله.
قال ابن إسحاق: وكان البيت في ذلك الزمان معروفاً مكانه، والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق، وإنما سموا العماليق، لأن أباهم عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة، فيما يزعمون، رجلاً يقال لهم معاوية بن بكر، وكان أبوه حياً في ذلك الزمان، ولكنه كان قد كبر، وكان ابنه يرأس قومه، وكان السؤدد والشرف من العماليق فيما يزعمون، في أهل ذلك البيت.
وكانت أم معاوية بن بكر، كلهدة ابنة الخبيري، رجل من عاد، فلما قحط المطر عن عاد وجُهدوا قالوا: جهزوا منكم وفداً إلى مكة فليستسقوا لكم، فإنكم قد هلكتم! فبعثوا عقيل بن عنز ولقيم بن هزّال بن هزيل، وعتيل بن صُد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عُفَيْر، وكان مسلماً يكتم إسلامه، وجُلهُمة بن الخبيري، خال معاوية بن بكر أخو أمه.
ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صُد بن عاد الأكبر. فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلاً، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وصهره.
فلم نزل وفد عاد على معاوية بن بكر، أقاموا عنده شهراً يشربون الخمر، تغنيهم الجرادتان- قينتان لمعاوية بن بكر- وكان مسيرهم شهراً ومقامهم شهراً.
فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتعوذون بهم من البلاء الذي أصابهم، شق ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري! وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي نازلون علي! والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنوا أنه ضيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهداً وعطشاً! أو كما قال:
فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعراً نغنيهم به، لا يدرون من قاله، لعل ذلك أن يحركهم!.
فقال معاوية بن بكر، حين أشارتا عليه بذلك:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ** لعل الله يصبحنا غماما

فيسقي أرض عاد إن عاداً ** قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو ** به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير ** فقد أمست نساؤهم عيامى

وإن الوحش تأتيهم جهارا ** ولا تخشى لعادي سهاما

وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم ** نهاركم وليلكم التماما

فقبح وفدكم من وفد قوم ** ولا لقوا التحية والسلاما

فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان، فلما سمع القوم ما غنتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومكم يتعوذون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم! فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم!.
فقال لهم مرثد بن سعد بن عُفَيْر: إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إليه سقيتم! فأظهر إسلامه عند ذلك.
فقال لهم جلهمة بن الخبيري خال معاوية بن بكر، حين سمع قوله، وعرف أنه قد ابتع دين هود وآمن به:
أبا سعدٍ فإنك من قبيل ** ذوي كرم وأمَّك من ثمود

فإنا لن نطيعك ما بقينا ** ولسنا فاعلين لما تريد

أتأمرنا لنترك دين رفدٍ ** ورمل وآل صد والعُبُودِ

ونتركَ دين آباء كرام ** ذوي رأي ونتْبَعَ دينَ هودِ

ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر: أحبسا عنا مرثد بن سعد، فلا يقدمنّ معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، ترك ديننا!
ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بها قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له. فلما انتهى إليهم، قام يدعوا الله بمكة، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعون، يقول: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد.
وكان قَيْلُ بن عنز رأس وفد عاد.
وقال وفد عاد: اللهم أعط قيلا ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله.
وكان قد تخلف عن وفد عاد حين دعا، لقمان بن عاد، وكان سيد عاد.
حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي، فأعطني سؤلي.
وقال قيل بن عنز حين دعا: يا إلهنا، إن كان هود صادقاً فاسقنا، فإنا قد هلكنا.
فأنشأ الله لهم سحائب ثلاثاً: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل! اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب. فقال: اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء. فناده مناد: اخترتَ رماداً رمْددَا، لا تُبقي من آل عاد أحداً، لا والداً تترك ولا ولداً، إلا جعلته همداً إلا بني اللُّوذيَّة المُهَدَّى، وبنو اللوذية، بنو لقيم بن هزّال بن هزيلة بن بكر، وكانوا سكاناً بمكة مع أخوالهم، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عادٌ الآخرة، ومن كان نسلهم الذين بقوا من عاد وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث.
فلما رأوها استبشروا بها وقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} يقول الله: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} أي: كل شيء أُمِرَتْ به.
وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها مَهْدَد، فلما تيقنت ما فيها صاحت ثم صعقت. فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد؟ قالت: رأيت ريحاً فيها، كشهب النار، أمامها رجال يقودونها!
فـ: {سَخَّرَها} الله: {عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوما}، كما قال الله- والحسوم الدائمة- فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك. فاعتزل هود فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، مايصيبه ومن معه من الريح، إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس.
وإنها لتمر على عاد بالظَّعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة.
وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر وأبيه، فنزلوا عليه.
فبينما هم عنده، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة، مُمْسَى ثالثة في مُصاب عاد، فأخبرهم الخبر، فقالوا له: أين فارقت هوداً وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر فكأنهم شكوا فيما حدثهم به، فقالت هزيلة بنت بكر: صدق، ورب الكعبة.
قال ابن كثير: وهو سياق غريب، فيه فوائد كثيرة، وقد قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}.
وروى الإمام أحمد عن أبي وائل، عن الحارث البكري قال:
خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة، فإذا بعجوز من بين تميم منقطع بها، فقالت لي: يا عبد الله! إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها، فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عَمْرو بن العاص وجهاً، فجلست، فدخل منزله- أو قال رحله- فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، فقال: هل كان بينكم وبين تميم شيء؟
قلت: نعم. قال وكانت لنا الدبرة عليهم، ومررت بعجوز من بين تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها، فدخلت. فقلت: يا رسول الله! إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزاً، فاجعل الدهنا. فحميت العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله! فإلى أين تضطر مضرك؟ قال قلت: إن مثلي مثل ما قال الأول: معزاء حملت حتفها، حملتُ هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصماً، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد! قال: هيه، وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه، قلت: إن عاداً قحطوا فبعثوا وافداً لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر، وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر، خرج جبل تهامة فنادى: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه! فمرت به سحابات سود، فنودي منها: اختر، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: خذها رماداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً. قال: فما بلغني أنه بُعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا، حتى هلكوا. قال أبو وائل: وصدق. قال: فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد- هكذا رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير-.
وقوله تعالى: